سياق النشأة
خلال منتصف القرن 19 وبداية القرن 20، وفي سياق تطور العلوم الدقيقة وما أفرزته من مفاهيم جديدة (الموضوع، المنهج، الدقة، الموضوعية…) في مقاربتنا للظواهر، ستتأثر العلوم الإنسانية بهذا السياق العام، وستنزع نحو تأسيس موضوعها وتحديد منهجها في مقاربة الظاهرة الإنسانية بنفس منهجية العلوم الدقيقة، متوسلة الدقة والموضوعية في البحث والدراسة. وقد حظيت التربية بنصيبها من هذا التأثير، حيث شرع الدارسون في محاولة تأسيس علم لها يهتم بالدراسة الموضوعية لمختلف ظواهرها وقضاياها.
بالرغم من أن مقاربة علم النفس للظاهرة التربوية مكن من استخلاص الكثير من القواعد والمبادئ الثابتة التي تعين احترافية كل ممارسة تربوية تستهدف الطفل، فإن الممارسة الميدانية أظهرت بأن الفعل التربوي فعل معقد ومتشابك، لا يستطيع علم النفس لوحده الإحاطة به في كل شموليته، على اعتبار أنه فعل ناتج عن أبعاد أخرى أساسية تكون شخصية الأفراد.
كما أن تطور مفهوم التربية ذاته، باعتبارها ممارسة اجتماعية إنسانية، لم تعد مقتصرة على الأطفال والمراهقين، بل أصبحت التربية تطال الراشدين أيضاً، أي أنها تستهدف إدماج الأجيال الناشئة وإعادة تكوين الكبار بما يمكنهم من التكيف مع مستجدات الحياة المهنية. ومن ثم ظهرت أشكال جديدة للتربية كالتربية المستديمة والتكوين المستمر وإعادة التكوين إلخ…
وعموماً يمكن التمييز بين ثلاث محطات أساسية طبعت سياق ظهور علوم التربية نذكر منها:
-
- هيمنة الفلسفة على الفكر التربوي، حيث تميز بتمركزه حول مسألة الأهداف والقيم واهتمامه بالمحتوى على حساب الطفل، وتعامل مع هذا الأخير كرجُل في صورة مصغرة.
- في أواخر القرن 19 أخذ التفكير التربوي يتجه اتجاها علميا وظهرت عدة محاولات لتأسيس البيداغوجيا انطلاقا من معطيات بيولوجية وسيكولوجية وما يعاب على هذا التوجه هو الاهتمام بحاجات الطفل على حساب الأهداف والمحتوى.
- اكتشاف الظاهرة التربوية كسلوك إنساني معقد له أبعاد وجوانب متعددة ومتشابكة تحدده عوامل مختلفة.
هكذا بدأت تترسخ القناعة لدى المهتمين بأن الظاهرة التربوية أوسع بكثير من أن يستوعبها ويحصـرها علم واحد، فكانت النتيجة الحتمية هي العمل على تجاوز علم التربية بالفرد، واستبداله بمصطلح جديد يحتضن كل العقول المعرفية التي تتناول التربية من مختلف الزوايا، وهو ما بات يعرف اليوم بـ “علوم التربية”.