قوانين النمو
تخضع سيرورة النمو لمجموعة من المبادىء والقواعد والقوانين التي يمكن حصرها فيما يلي:
التغيير الكمي و الكيفي
يتميّز نمو الكائن الإنساني بكونه نموًا مزدوج البعد، يشمل من جهة النمو الكمي، ومن جهة أخرى النمو الكيفي.
ويتجلّى النمو الكمي في الزيادة الملموسة في حجم الجسم والطول والوزن، ونمو العضلات، وسرعة التغيرات الفسيولوجية والعصبية، وكذا نضج الوظائف الذهنية.
أما النمو الكيفي، فيتمثل في التغيرات النوعية التي تطال الجوانب النفسية والانفعالية والمعرفية والاجتماعية للفرد، حيث يُصبح أكثر قدرة على التكيف، والاستيعاب، وضبط السلوك، وإقامة علاقات اجتماعية ناضجة.
ومع انتقال الفرد من مرحلة إلى أخرى، تتغير ملامحه الجسدية، ويتطور رصيده اللغوي والمعجمي، وينمو عقله تدريجيًا ليتلاءم مع متطلبات المحيط. كما يصاحب هذا التطور الكمي تغيرات نفسية وانفعالية نوعية تعكس نضجه التدريجي.
وبذلك، فإن كل تحول كمي في بنية الفرد (مثل الطول أو النضج العصبي) يُفضي إلى تحول كيفي في شخصيته وسلوكه، في علاقة تفاعلية تكاملية تشكل أساس النمو الشامل والمتكامل للإنسان.
النمو عملية مستمرة ومنتظمة
لا يُعد النمو سلسلة من المراحل المتقطعة أو المعزولة عن بعضها البعض، بل هو مسار ارتقائي مترابط ومتكامل، تتحقق فيه مختلف التحولات الجسدية والنفسية والاجتماعية بشكل متدرج ومتتابع.
فكل مرحلة من مراحل النمو تُمهّد لما بعدها، وتشكل امتدادًا لما قبلها، في إطار وحدة ديناميكية متكاملة، تهدف إلى تحقيق النضج الوظيفي الشامل للفرد.
ومن هذا المنطلق، فإن النمو الإنساني لا يتحقق بصورة فجائية أو عشوائية، بل وفق تسلسل منطقي ومنظم، يضمن التوازن بين مختلف الأبعاد والمستويات النمائية.
سرعة النمو غير متساوية
يختلف إيقاع النمو من فرد إلى آخر، تبعًا لاختلاف عوامل التطور البيولوجي، والعصبي، والفيزيولوجي، والثقافي التي تميز كل شخص. وينتج عن هذا التباين ظهور فوارق فردية واضحة في مختلف أبعاد النمو، خاصة في المراحل المبكرة من الطفولة.
فعلى سبيل المثال، لا تتجاوز قدرة الطفل على التعبير اللغوي في نهاية عامه الأول نطق ثلاث إلى خمس كلمات، في حين يتوسّع رصيده المعجمي ليصل إلى حوالي 2500 كلمة عند بلوغه سن السادسة.
ومع تقدم الطفل في العمر، يُلاحظ تباطؤ في وتيرة النمو اللغوي، مقابل تسارع في نمو المهارات الحركية والجسمية، مما يعكس طبيعة التوازن والتناوب بين مختلف مجالات النمو خلال الطفولة.
معدلات سرعة النمو
تتباين سرعة النمو من فرد إلى آخر، كما تختلف من مرحلة نمائية إلى أخرى، وذلك بفعل عوامل بيولوجية وفيزيولوجية متعددة.
ويُعد هذا التفاوت أحد الخصائص الأساسية للنمو، حيث لا تنمو جميع أجهزة الجسم بنفس المعدل، بل تختلف معدلات نموها، وتكتمل في فترات زمنية متفاوتة. وينطبق هذا المبدأ سواء قبل الولادة أو بعدها.
فعلى سبيل المثال، يكون رأس الطفل عند الولادة كبيرًا نسبيًا مقارنة بالجذع، ويكون الجذع بدوره أكبر حجمًا من الأطراف. ومع مرور الوقت، تنمو هذه الأجزاء بوتيرة غير متساوية حتى تبلغ التناسق البنيوي المطلوب، حيث يكتمل نمو الرأس والجذع تقريبًا بين السادسة والثامنة، بينما تبلغ الأقدام حجمها الكامل في بداية مرحلة المراهقة.
أما الأعضاء الداخلية مثل القلب والكبد والجهاز الهضمي، فتعرف بدورها تسارعًا ملحوظًا في النمو خلال فترة المراهقة.
وبناءً عليه، فإن سرعة النمو وإيقاعه يختلفان من شخص إلى آخر، بفعل العوامل الوراثية والمكتسبة معًا، مما يفسر وجود فوارق فردية في مسارات النمو بين الأطفال.
النمو محصلة لعوامل النضج والتعلم
لا يمكن للتعلم والاكتساب والاستيعاب أن يتحققوا بشكل فعّال إلا في ظل توفر نضج بيولوجي واكتمال فيزيولوجي لدى الفرد. فالمتعلم لا يمتلك كفاءاته الأساسية ولا قدراته النوعية، سواء كانت معرفية أو مهارية أو وجدانية، إلا إذا بلغ مستوى معينًا من النضج العقلي والبيولوجي، وهو ما يمكّنه من التكيف الإيجابي والفاعل مع محيطه وبيئته التعليمية والاجتماعية.
ويُقصد بالنضج، وفق التعريفات العلمية، تلك التغيرات الداخلية الطبيعية التي تطرأ على الكائن الحي بفعل تكوينه الفيزيولوجي والعضوي، لا سيما على مستوى الجهاز العصبي. وتُعد هذه التغيرات سابقة على كل أشكال التعلم والخبرة، حيث لا تلعب البيئة دورًا في إحداثها، بل يقتصر دورها على توجيهها وتعزيزها.
إن النضج يشمل مختلف أبعاد الكائن الحي: من النضج العضوي البيولوجي إلى النضج العقلي والذهني، مرورا بالنضج الانفعالي والوجداني.
ولهذا، يُعد النضج عاملاً حاسما في قابلية الفرد للتعلم، حيث يحدد حدود سلوك المتعلم، وما يمكن أن ينجزه من مهارات وخبرات.
فلا يمكن، على سبيل المثال، أن يُطلب من طفل أن يمسك بالقلم بطريقة سليمة قبل نضج عضلاته الدقيقة، كما أنه من غير الممكن أن يُفهم طفل في المراحل الأولى من التعليم مفاهيم هندسية معقدة، لعدم اكتمال نضجه العقلي بعد.
إذًا، فإن النضج شرط أساسي لتحقيق النمو في أبعاده المختلفة: الحركي، واللغوي، والنفسي، والاجتماعي، كما يشكل حجر الزاوية في بناء تجارب تعلم ناجحة وملائمة للمرحلة النمائية التي يمر بها المتعلم.
انتقال النمو من العام إلى الخاص
يبدأ نمو الطفل على المستوى الحركي من خلال حركات تلقائية عشوائية، لا هدف لها سوى الاستجابة الفطرية للمثيرات المحيطة. ومع تطور العضلات ونمو الجهاز العصبي، تكتسب هذه الحركات طابعا وظيفيا، فيصبح الطفل قادرًا تدريجيًا على الجلوس، والزحف، ثم الوقوف والمشي، إلى أن تصبح حركاته موجّهة وهادفة، ذات أغراض محددة ووظائف عملية.
أما على المستوى اللغوي، فيمر تطوره عبر تسلسل طبيعي، حيث يبدأ الطفل بإصدار أصوات غير منتظمة، ثم ينتقل إلى نطق كلمات مفردة، وبعدها يتمكن من تكوين جمل بسيطة تتطور تدريجيا في التركيب والمعنى.
ويمكن القول، بشكل عام، إن نمو الطفل يسير من العام نحو الخاص، ومن السلوك غير المنظم إلى الأداء الوظيفي الهادف، سواء في الجانب الحركي أو في الجانب اللغوي والمعرفي.
الفوارق الفردية النمائية
يتكوّن الفصل الدراسي من تلاميذ يختلفون في العديد من الجوانب الفردية، ما يجعل من التدريس عملية معقدة تتطلب إدراكًا عميقًا لطبيعة هذه الفوارق. ومن بين أهمها نذكر:
• الفوارق العمرية والجنسية والوراثية،
• الفوارق الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والطبقية،
• الفوارق في الكفايات والقدرات والذكاء والاستعدادات النفسية والانفعالية،
• الفوارق المعرفية والثقافية واللغوية والحضارية،
• الفوارق في أساليب التعلّم والتذكر والاكتساب،
• بالإضافة إلى الفوارق البيداغوجية والديدكتيكية.
ويؤكد الباحثون أن هذه الفوارق هي أساسًا فوارق كمية، أي أنها تتعلق بدرجات متفاوتة في صفات مشتركة بين الأفراد، وليس باختلافات نوعية أو جوهرية.
كما أن الفرد الواحد يحمل داخله أيضًا تفاوتات بين قدراته وسماته الذاتية، وهو ما يستوجب مقاربة تعليمية تأخذ بعين الاعتبار الفروق داخل الفرد إلى جانب الفروق بين الأفراد.
وتتوزع هذه الفوارق بشكل طبيعي داخل المجتمع؛ إذ يقع معظم الأفراد ضمن المعدل الوسيط، بينما يتموقع البعض في درجات أعلى أو أدنى منه.
وترجع أسباب هذه الفوارق إلى عوامل وراثية، أو بيئية، أو إلى تفاعل معقد بينهما.
ومن هذا المنطلق، فإن اهتمامنا كمشتغلين في الحقل التربوي ينصبّ أساسًا على الفوارق التعليمية-التعلمية، باعتبارها الأهم في توجيه الفعل التربوي والديدكتيكي نحو تحقيق تعليم منصف وفعّال.