سوسيولوجيا المؤسسة التعليمية وتفاعلاتها مع المحيط
تُعد المدرسة نظامًا مركبًا من العلاقات التربوية والاجتماعية، ومنظومة من التفاعلات النفسية والسوسيولوجية، التي قد تقوم على أسس من المودة، المحبة، التعاون، والتضامن، أو تُبنى على مشاعر الرفض، الحقد، الحسد، الكراهية، والتمييز الطبقي والاجتماعي.
إنها علاقات تخضع لثنائية الانجذاب والنفور، وتشكل جزءًا حيويًا من المناخ العام داخل المؤسسة التعليمية.
وترتبط المؤسسة التربوية اليوم بمجموعة من القضايا والإشكاليات الراهنة، من بينها:
• التنافس بين المدرسة العمومية والخاصة،
• إشكالات الديمقراطية المدرسية والاصطفاء التربوي،
• العلاقة بين الأسلاك التعليمية،
• العنف المادي والرمزي داخل المدرسة،
• مفارقة النظرية والتطبيق،
• التفاعل بين المدرسة ووسائل الإعلام،
• سؤال: هل نحن أمام مدرسة شعبية أم نخبوية؟
• مكانة النقد والتعددية، وحرية التعبير داخل الفضاء التربوي…
وتُعتبر المؤسسات التعليمية كذلك فضاءات لـ:
• ممارسة الحقوق والواجبات،
• بناء الكفايات والمهارات،
• إعداد المتعلمين لتحمل مسؤولياتهم الوطنية والمجتمعية.
لهذا، يتعين على المؤسسات أن تضمن فعليًا:
• احترام حقوق التلاميذ،
• ممارسة واجباتهم،
• إدماج هذه المبادئ داخل النظام الداخلي،
• إشراك كافة الفاعلين في صياغته: المتعلمون، الأطر التربوية، وجمعيات الأمهات والآباء، ترسيخًا لروح الديمقراطية التشاركية.
وترتكز المدرسة المغربية، في بنيتها التربوية والقيمية، على الثوابت التالية:
1. قيم العقيدة الإسلامية المبنية على الاعتدال، التسامح، والإبداع النافع.
2. التمسك بثوابت الدولة المغربية: الإيمان بالله، حب الوطن، والملكية الدستورية.
3. التربية على المواطنة، الحوار، وقبول الاختلاف في ظل دولة الحق والقانون.
4. التفاعل الإيجابي بين الأصالة والمعاصرة، في انسجام مع مقومات الهوية الوطنية.
5. جعل المتعلم محور الفعل التربوي، وتمكينه من الاضطلاع الكامل بدوره كمواطن فاعل وواعٍ بحقوقه وواجباته.
بناءً عليه، فالمدرسة ليست مجرد فضاء للتلقين، بل هي مؤسسة للتعليم، التكوين، التأطير، التأهيل، والتهذيب الأخلاقي، بهدف تكوين مواطن صالح ونافع لأسرته ووطنه، وقادر على المساهمة في بناء مجتمع إنساني متوازن ومزدهر.
الوظائف الأساسية للمدرسة
يمكن تلخيص الوظائف الكبرى التي تنهض بها المدرسة في المحاور التالية:
وظيفـــــة التطبيع والتنشئــــة الإجتماعية
تضطلع المدرسة بعدّة وظائف أساسية تجعل منها فاعلًا محوريًا في بناء المجتمع وتوجيه تطوره. ومن بين أبرز هذه الوظائف، تبرز وظيفة التنشئة الاجتماعية، التي تهدف إلى تكوين مواطنين صالحين ونافعين لأنفسهم، ولأسرهم، ولوطنهم، وللإنسانية جمعاء.
هؤلاء المواطنون يُنتظر منهم أن يحافظوا على منظومة القيم والمعتقدات والعادات التي ورثوها عن الأجداد، مع القدرة على الاندماج الفعّال في المجتمع ومؤسساته.
ويقصد بـ التنشئة الاجتماعية (Socialisation) تلك العملية التربوية التي يتم من خلالها تطبيع الفرد اجتماعيًا، وذلك عبر التعلم والتعليم والتهذيب والتفاعل المستمر مع محيطه. وتقوم هذه العملية على غرس القيم والمعايير والمُثل التي تمكّن الفرد من التوافق النسبي مع المجتمع، والاندماج فيه تكيفًا وتأقلمًا ومسايرة.
وتهدف التنشئة الاجتماعية – من خلال المدرسة – إلى:
“إكساب الفرد، في مختلف مراحل عمره (طفلًا، فمراهقًا، فرشدًا، فشيخًا)، سلوكًا ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية محددة، تمكّنه من التفاعل الإيجابي مع جماعته، والتكيّف معها، والانخراط الفاعل في الحياة الاجتماعية.”
بهذا المعنى، فإن المدرسة ليست فقط فضاءً معرفيًا، بل هي مؤسسة ذات وظيفة اجتماعية، تعمل على إعداد الفرد للعيش المشترك، وترسيخ أسس التماسك الاجتماعي، في ظل احترام القيم المشتركة، وتعزيز روح المواطنة والمسؤولية.
التعليم الأوروبي
خُصّص هذا النوع من التعليم بشكل أساسي لأبناء المستعمِرين الفرنسيين، وكانت مهمته الرئيسة هي خدمة المشروع الاستيطاني الاستعماري الفرنسي في المغرب.
وقد جاء هذا النظام كصورة مطابقة تمامًا للنموذج التعليمي الفرنسي، سواء من حيث تنظيم الأسلاك والمراحل التعليمية (الابتدائي، الإعدادي، الثانوي)، أو من حيث المناهج والبرامج الدراسية، وحتى الشواهد التي تُسلّم في نهاية كل سلك تعليمي.
التعليم الإسرائيلي
أما هذا النمط من التعليم، فقد كان موجهًا خصيصًا لأبناء الطائفة اليهودية المغربية، وكان تابعًا لشبكة مدارس الرابطة الإسرائيلية العالمية، التي افتتحت أول مدرسة لها بمدينة تطوان سنة 1872.
وكان التعليم في هذه المدارس يُلقّن باللغة الفرنسية، مع تخصيص خمس ساعات أسبوعيًا لتدريس اللغة العبرية فقط.
وقد بلغت نسبة تمدرس الأطفال اليهود المغاربة في سن التمدرس، سنة 1952، حوالي 67%، وهو معدل مرتفع مقارنة بالسياق العام آنذاك.
التعليم الإسلامي
وقد انقسم هذا النوع من التعليم إلى قسمين بارزين:
• مدارس أبناء الأعيان: وهي مؤسسات يمكن اعتبارها بمثابة مدارس النخبة المغربية، إذ أُنشئت خصيصًا لتكوين فئة من أبناء الوجهاء، والأعيان، وكبار الموظفين، والتجار، والملاّكين، ليلعبوا دور الوسيط بين الإدارة الاستعمارية وباقي فئات الشعب المغربي، خاصة الفئات الدنيا.
ومن أبرز الشخصيات التي أشرفت على هذا النوع من التعليم نذكر توم هاردي، الذي تولّى منصب مدير التعليم بالمغرب.
• المدارس الابتدائية المهنية: أُنشئت في بعض المناطق الحضرية والقروية، وكانت مهمتها الأساسية تكوين يد عاملة مدرّبة لخدمة مصالح المستعمر الفرنسي.
ففي المناطق القروية، تم إنشاء مدارس فلاحية تهدف إلى تزويد المستعمرين بيد عاملة متعلمة في المجال الزراعي،
أما في المناطق الحضرية الصناعية والتجارية، فقد ظهرت مدارس مهنية تُكوّن العمال في مجالات البناء، والتجارة، والصيد، والملاحة، لتلبية حاجات المعامل والمرافق الاقتصادية الفرنسية.
مدارس الحركة الوطنية:
إدراكًا من روّاد الحركة الوطنية لخطورة النموذج التعليمي الكولونيالي، الذي رأوا فيه أداة لـ”الغزو الفكري” وتهديدًا للهوية الثقافية الإسلامية المغربية، عملت هذه الحركة على تأسيس مدارس خاصة وطنية، تجاوزت الأساليب البيداغوجية التقليدية المعتمدة في الكتاتيب والمدارس العتيقة.
وقد ميّز هذه المدارس إدراج مواد تعليمية جديدة لم تكن مألوفة في المؤسسات التقليدية، كـالتاريخ، الجغرافيا، المنطق، والنحو، إضافة إلى العلوم الدينية، مع اعتماد اللغة العربية كلغة وحيدة للتدريس.
عرف هذا النموذج من التعليم انتشارًا واسعًا خلال العقد الثالث من القرن العشرين، خصوصًا في المدن التي نشطت فيها الحركة الوطنية، مثل الدار البيضاء، فاس، تطوان، الرباط، وسلا.
وانطلاقًا من التعليم الذي كان يُمارس في المساجد والزوايا، أسس الوطنيون ما سُمي بـ”التعليم الأصيل”، وهو تعليم لم يكن يتوّج بشهادات رسمية معترف بها من طرف إدارة الحماية، وإن كان الشيوخ يمنحون لطلبتهم إجازات علمية تثبت تمكنهم في فروع معرفية معينة.
ركز التعليم الأصيل على العلوم الشرعية، وكان برنامج السنتين الأولى والثانية يتضمن مواد:
الفقه، أصول الفقه، النحو، الصرف، فن النسخ، الخط، الحساب، الجغرافيا، والتاريخ.
وفي السنة الثالثة، أُضيف علم التجويد، أما في السنة الأولى من التعليم الثانوي (السنة الرابعة)، فقد تم تدريس الهندسة،
وفي السنة الثانية من الثانوي، تم إدراج العروض والمنطق،
وفي السنة الثالثة: الكتابة العدلية،
وفي السنة الرابعة: نفس المواد السابقة مع إضافة علم الحديث والبلاغة.
وقد كان إصلاح التعليم من المحاور الأساسية التي شغلت أقطاب الحركة الوطنية، إذ خصّصت “كتلة العمل الوطني” سنة 1934 الفصل الخامس من برنامجها كاملاً لقضية إصلاح المنظومة التعليمية.
وظيفــــة الإعلام والتكويـــن والتأهيـــل
لا تقتصر وظيفة المدرسة على نقل القيم الأخلاقية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى أداء دور أساسي في تأهيل المتعلم معرفيًا، وذهنيًا، ووجدانيًا، وحسّيًا – حركيًا.
فهي تسهم في تنوير شخصية المتعلم من جوانب متعددة:
• ثقافيًا من خلال اطلاعه على التراث والمعارف الإنسانية،
• أخلاقيًا وتربويًا عبر ترسيخ السلوك المدني وروح المواطنة،
• علميًا وفنيًا وتقنيًا بإعداده لاكتساب مهارات العصر،
• ووطنيًا وقوميًا من خلال غرس قيم الانتماء والهوية.
وتُعد المدرسة كذلك فضاءً للتعليم والتكوين والتأهيل، ومؤسسة ديمقراطية للتنافس التربوي البنّاء، حيث يُتاح للمتعلمين التفوق والاجتهاد لنيل شواهد ودبلومات تفتح أمامهم آفاقًا مهنية ومسؤوليات اجتماعية.
ولأجل ذلك، ينبغي أن تعمل المدرسة على:
• صقل عقول المتعلمين بالتكوين المناسب،
• تهذيب ذواتهم بالمعارف والقيم،
• تنمية قدرتهم على التفكير العلمي والنقدي،
• وتزويدهم بالحقائق والمعطيات التي تساعدهم على فهم العالم والانخراط فيه بفعالية.
بهذا المعنى، فالمدرسة ليست مجرد وسيلة لتلقين الدروس، بل هي مؤسسة شاملة تُسهم في بناء الإنسان المتوازن القادر على التعلّم والعمل والتغيير.
وظيفــــــة التغييرالمجتمعي
لا تقتصر المدرسة على نقل المعارف والمحافظة على القيم الموروثة فحسب، بل تؤدي أيضًا دورًا حاسمًا في إحداث التغيير داخل المجتمع، سواء كان هذا التغيير كليًا أو جزئيًا.
وتتجلّى هذه الوظيفة التحويلية في قدرتها على إعادة تشكيل البنيات الاجتماعية والثقافية، أو التفاعل معها، أو حتى الخضوع لها.
وفي هذا السياق، يمكن التمييز بين ثلاث نماذج مدرسية رئيسية، حسب علاقتها بالتغيير المجتمعي:
1. مدرسة تغيّر المجتمع:
كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة مثل اليابان، حيث تُعتبر المدرسة أداة قوية لتحديث المجتمع والنهوض به، عبر غرس قيم العمل والانضباط والتفوق العلمي.
2. مدرسة يغيّرها المجتمع:
كما هو الحال في عدد من دول العالم الثالث، حيث تخضع المدرسة لضغوطات البنية المجتمعية والسياسية، فتصبح عاجزة عن أداء دورها التحويلي، وتكتفي بمسايرة الواقع بدل تغييره.
3. مدرسة تتغير مع المجتمع:
كما في الدول الغربية، حيث تُعتبر المدرسة كائنًا اجتماعيًا ديناميكيًا، يتفاعل باستمرار مع التحولات المجتمعية، ويُطوّر برامجه ومناهجه ومقارباته التربوية بما يواكب المستجدات.
بهذا المعنى، فالمدرسة ليست مؤسسة جامدة، بل هي فضاء مرن وتفاعلي، قد يكون فاعلًا في تغيير المجتمع، أو منفعلاً بالتغيرات التي يعرفها، أو شريكًا فيها بصفة مستمرة ومتوازنة.
الوظيفــــــة الإيديولوجيـــة
يقدّم الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي لوي ألتوسير (Louis Althusser) قراءة نقدية للمدرسة من منظور ماركسي، حيث يعتبرها أحد “أجهزة الدولة الإيديولوجية”.
فالمدرسة، في هذا التصور، ليست مؤسسة محايدة، بل هي جهاز عمومي يعمل على تمرير الإيديولوجيا السائدة، ويُساهم في إعادة إنتاج علاقات الإنتاج، وضمان استمرارية البنية الطبقية القائمة في المجتمع.
ويؤكد ألتوسير أن النظام المدرسي يعكس، في تنظيمه ومناهجه وبرامجه، توجهات الدولة السياسية والإيديولوجية، ويخدم بالدرجة الأولى مصالح الطبقة الحاكمة.
فمن خلال توزيع المسارات الدراسية، وتقسيم التلاميذ إلى شعب ومسالك، يُعاد إنتاج تقسيم العمل السائد في المجتمع، ويتم تأهيل الأفراد بما يتلاءم مع مواقعهم الطبقية، مما يُفضي إلى إعادة إنتاج البنية الاجتماعية كما هي.
فالمدرسة، بحسب ألتوسير، لا تقوم فقط بالتكوين الأكاديمي والتربوي، بل تمارس بشكل غير مباشر عملية إخضاع للإيديولوجيا المهيمنة، وتُساهم في ترسيخ قيم النظام القائم، وتمثل الطبقة المهيمنة كمعيار طبيعي ومشروع.
بهذا، تصبح المدرسة أداة فاعلة في استنساخ البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، تحت غطاء الحياد والموضوعية، في حين أن وظيفتها العميقة هي تثبيت النظام الطبقي وضمان استمراريته.