مدرسة الاستقلال: تحدي المغربة وصراع الهوية

  أدى الاستقطاب الحاد الذي عرفه النظام التعليمي المغربي خلال فترة الحماية إلى تعميق الانفصام في الشخصية المغربية، حيث تجلّى ذلك في التباين الصارخ بين النخبة العصرية التي تلقت تعليمها في المدارس الرسمية (الإسلامية والأوروبية)، والنخبة التقليدية التي أفرزها التعليم الوطني، سواء الأصلي أو الحر. وقد ساهم هذا التباين في تكريس عقليتين مختلفتين، أو بالأحرى نمطين فكريين متنافرين بشكل كبير.

  وقد زاد الوضع تعقيدًا بعد الاستقلال، حين تولّت النخبة العصرية، المنحدرة من تعليم الحماية الفرنسية، زمام السلطة في الدولة المغربية الحديثة، بفضل تأهيلها الأكاديمي العصري، ومكانتها الاجتماعية ذات الطابع الأرستقراطي.

  ومع توسّع العرض التعليمي بعد الاستقلال، وتكثيف بناء المدارس، وارتفاع الطلب الاجتماعي من مختلف الطبقات لتسجيل أبنائها في المؤسسات التعليمية، وجدت الدولة الوليدة نفسها أمام “مشكلة التعليم”، مما فرض ضرورة وضع مخطط لإصلاحه. وقد تُرجمت هذه الحاجة من خلال تشكيل لجنة عليا لمعالجة قضايا التعليم وإرساء أسس “مدرسة وطنية” و”مذهب تعليمي”، وهي اللجنة التي عقدت أول اجتماع لها بتاريخ 28 شتنبر 1957.

  ونظرًا لضعف نتائج هذه اللجنة، تم في سنة 1958 إحداث اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، التي اعتمدت قرارات جديدة، مخالفة في بعض جوانبها لتوصيات اللجنة الأولى، حيث تم تعديل هيكلة الأسلاك، والعودة إلى تدريس المواد العلمية والحساب بالفرنسية، مع التركيز على تكوين الأطر بدل تعميم التمدرس.

   ثم جاءت لجنة ثالثة، في عهد حكومة عبد الله إبراهيم، سُمّيت بـ لجنة “التربية والثقافة”، ضمن المخطط التنموي والاجتماعي لسنة 1959، والذي ركّز على أربعة مداخل رئيسية:

          1. تعميم التمدرس

          2. تكوين الأطر

          3. إعادة هيكلة وزارة التربية الوطنية

          4. تأسيس المجلس الأعلى للتعليم والعمل باللجان الثنائية

   ومن خلال قراءة تحليلية لمخرجات هذه المخططات الإصلاحية، وما صاحبها من صراع سياسي – سواء معلن أو خفي – بين الطبقات المتصارعة، يتأكد أن المغرب شهد آنذاك جدلاً حادًا حول هوية المدرسة الوطنية، وأهدافها، واختياراتها التربوية الكبرى، مما استوجب عقد أول مناظرة وطنية حول التعليم، وهي المعروفة بـ “مناظرة المعمورة” سنة 1964.

   وقد شهدت هذه المناظرة مشاركة واسعة لمختلف الهيئات السياسية، والنقابية، والثقافية، في أجواء متوترة، اتسمت بتباين عميق في التصورات، خاصة بين الوزارة الوصية وتلك المنظمات، وكان موضوع لغة التدريس من أبرز نقاط الخلاف.

   ورغم كل ذلك، فقد نجحت المناظرة في بلورة توافق وطني حول المداخل الكبرى لإصلاح التعليم، من خلال اعتماد المبادئ الأربعة التالية:

          1. التعميم

          2. التوحيد

          3. التعريب

           4. مغربة الأطر

  وقد عكست هذه الاختيارات الطابع التوفيقي للنخبة الوطنية، وفي الوقت ذاته عبّرت عن واقع اجتماعي وسياسي فرض نفسه بقوة.