النظام التعليمي قبل الحماية: البنيات التنظيمية والأسس المنهاجية
البنيات المؤسسية
عرف المغرب، منذ استقرار الفتح الإسلامي وإلى غاية فترة الحماية، نظامًا تعليميًا نشيطًا ومتدرجًا، تطوّر ضمن بنيات مدرسية متنوعة، وإن كانت تتسم بطابعها العرفي والبسيط، البعيد عن أنماط التدبير الإداري والبيداغوجي الحديث.
وقد تمركزت هذه المؤسسات التعليمية، المعروفة بالمدارس “العتيقة” أو “التقليدية” أو “الشرعية” (تمييزًا لها عن مؤسسات التعليم العصري كما سيأتي لاحقًا)، في مجموعة من الفضاءات أبرزها الكتاتيب القرآنية (المسيد)، سواء المستقلة أو التابعة للمساجد، أو المرتبطة بالزوايا. كما انتشرت المدارس الشرعية في مختلف مناطق المغرب الأقصى، كلما توفرت شروط الاحتضان الشعبي، وتوفّر العالِم المربي الذي يُقصده الطلبة بعد استكمال حفظ القرآن الكريم وبعض المتون الأساسية في الكتاتيب.
إلى جانب ذلك، ظهرت الجوامع والمعاهد التي يمكن اعتبارها بمثابة جامعات للتعليم العالي، وكانت غالبًا متمركزة في المدن التاريخية العتيقة، نذكر منها على سبيل المثال: جامع القرويين والمدرسة البوعنانية بفاس، معهد ابن يوسف بمراكش، المعهد الإسلامي بتارودانت، والمدرسة المرينية بسلا، وغيرها.
وقد ساهمت هذه المؤسسات التعليمية بشكل كبير في تكوين الأطر المؤهلة والكفاءات العلمية، التي تولّت مهام التدريس، والفتوى، والإمامة، والخطابة، والتوثيق، والعدالة، والقضاء، والحسبة، والإدارة، والاستشارة السلطانية. كما تخرّج منها عدد كبير من العلماء والمفكرين والمثقفين، إلى جانب فقهاء موسوعيين تميّزوا بتعمقهم في مختلف فروع المعرفة، واشتهروا في العالم الإسلامي شرقًا وغربًا.
بل إن من بين خريجيها من تولّى الحكم نفسه، مثل عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين، وأحمد المنصور الذهبي سلطان الدولة السعدية.
الأسس المنهاجية والاختيارات البيداغوجية
كان المنهاج التربوي المعتمد في المدارس الشرعية يركّز بالدرجة الأولى على حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، إلى جانب تعلم علوم اللغة العربية و”علوم الآلة” التي تُعين على فهم هذين الأصلين، مثل النحو، والصرف، والبلاغة… ثم التوسع في العلوم الخادمة لهما، كأصول الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، والتفسير، والتصوف، وغيرها.
وقد كانت الطرق البيداغوجية المعتمدة في هذه المدارس تقوم أساسًا على الحفظ والتكرار، مع اعتماد أسلوب التلقين والدرس النظري الصرف، حيث يحتل الشيخ أو العالم موقع الصدارة، ويمارس هيمنة شبه مطلقة على مجريات العملية التعليمية. وكان يُفسَح للطالب بين الحين والآخر مجالٌ ضيق لطرح تساؤلاته أو ملاحظاته أو تعقيباته.
لكن هذه المنهجية كانت تفتقر بشكل واضح إلى العلوم التطبيقية والتخصصات المرتبطة بالواقع، وهو ما اعتُبر من أبرز نقائص النظام التعليمي التقليدي، الذي وُصف بالطول والمشقة، وابتعاده عن متطلبات الحياة العملية.
وقد انتقد ابن خلدون هذا النموذج في مقدمته، حيث أشار إلى أن المتعلم، حتى لو قضى عمره في دراسة علوم الآلة، كالعربية مثلًا، فلن يحقق بها ما يكفي لتحصيل المقاصد الحقيقية من العلم، لأنها مجرد وسائل، وليست الغاية نفسها.
كما لاحظ ابن خلدون أن العلم في هذا السياق ظل مرتبطًا بالمجردات النظرية، وأرجع ذلك إلى تأثر العلماء بمنهج الفقه القائم على القياس العقلي، مشيرًا إلى أن أحكامهم واستنتاجاتهم تبقى ذهنية ولا تُختبر واقعياً إلا بعد الفراغ من البحث، وبالتالي تبقى بعيدة عن التطبيق والمطابقة الفعلية.
وجدير بالذكر أن هذه المرحلة شهدت أيضًا وجود نظام تعليمي يهودي خاص بالطائفة اليهودية في المغرب، خاصة بعد صدور ظهير “الحرية لليهود” في عهد السلطان محمد بن عبد الرحمن (1859-1873).
وقد مكّن هذا الظهير اليهود المغاربة من تعزيز علاقاتهم بـ”الرابطة الإسرائيلية العالمية”، وممارسة أنشطتهم بشكل رسمي وعلني داخل البلاد، من بينها إنشاء عدد من المدارس العصرية تحت إشراف ودعم هذه الرابطة، خاصة في المناطق التي كانت تعرف كثافة سكانية يهودية.