علوم التربية: تعريفها، حقولها، تكاملها

   تُعد الظاهرة التربوية فعالية إنسانية معقدة تتداخل فيها عناصر متعددة، منها البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية والاقتصادية، مما يعني أنها تجمع بين ما هو ذاتي يتعلق بالفرد نفسه، وما هو موضوعي يرتبط بالمؤسسات والشروط العامة والخاصة التي تُمارس ضمنها العملية التربوية. هذا التداخل والتعقيد يجعل من الضروري اعتماد مقاربات علمية متنوعة، تختص كل واحدة منها بجانب معين من جوانب الظاهرة التربوية، وهو ما أدى إلى نشأة ما يُعرف بعلوم التربية.

   غير أن تحديد مفهوم دقيق لعلوم التربية يواجه عدداً من الصعوبات. أول هذه الصعوبات ترتبط بحداثة هذه العلوم، إذ باستثناء تاريخ التربية وفلسفة التربية، فإن باقي التخصصات تُعد حديثة النشأة، ولا يزال بعضها في طور التكوين والنضج، مع احتمال بروز علوم جديدة مستقبلاً، مما يجعل أي تعريف يُقترح في الوقت الحالي مؤقتًا وقابلاً للتعديل.

   الصعوبة الثانية تتجلى في وجود تباين بين الباحثين حول مكانة هذه العلوم من الناحية العلمية؛ فبينما تتوفر بعض التخصصات التربوية على رصيد معرفي ومنهجي يخول لها مكانة علمية معترف بها، يفتقر بعضها الآخر لهذه الشروط، مما يجعلها محل جدل، كما هو الحال بالنسبة لفلسفة التربية التي يصعب تصنيفها كعلم وفق المعايير التقليدية.

   أما الصعوبة الثالثة، فتتمثل في خاصية التعدد التي تميز علوم التربية، حيث تُعد بمثابة عائلة معرفية تضم تخصصات علمية متنوعة، وهو ما يطرح تساؤلاً جوهريًا حول مدى إمكانية اعتبار علوم التربية كياناً معرفيًا موحدًا ومستقلاً بذاته.

   ورغم هذه الإشكالات، فإنه من الممكن تقديم تعريف عام لعلوم التربية، يرتكز على شمولية الحقول العلمية التي تنضوي تحتها، والتي تهدف جميعها إلى دراسة الظاهرة التربوية من زوايا متعددة، في إطار تكامل معرفي يسعى إلى فهم أفضل لواقع التربية وتحولاتها.

   تركز ” فيزيولوجيا التربية” اهتمامها على العلاقة القائمة بين مجموعة من الشروط التي يرتبط أهمها: بالصحة و التغذية المتوازنة و النوم الكافي … و بين التعلم المدرسي بالنسبة للطفل المتعلم، طارحة عددا من التساؤلات من قبيل :

    ما هي القوانين الفيزيولوجية المتحكمة في الأساس البيولوجي لعملية النمو ؟

    كيف تنمو الإيقاعات الحيوية (النوم، اللعب، الانتباه…) ، وما علاقتها بالتعلم المدرسي؟

    ما هي الآثار التي تحدثها التغذية على المستوى الكمي والنوعي في النمو المدرس ي للطفل؟

   تُعنى سيكولوجيا التربية بدراسة الظاهرة التربوية انطلاقًا من مبادئ علم النفس بمختلف تخصصاته. وتركز بشكل خاص على الجوانب النفسية المرتبطة بشخصية الطفل، مثل قضايا النمو النفسي في مختلف مراحله، وعلاقته بالتربية، إضافة إلى أساليب التعلم، ومضامينه، وطرق تقويمه.

   وبصيغة أدق، تهتم سيكولوجيا التربية بكل وضعية تربوية يكون الطفل فيها محورًا أساسيًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

   يُعد هذا الحقل من الحقول العلمية التي تتناول الظاهرة التربوية من خلال توظيف القواعد المنهجية لعلم الاجتماع، حيث يتم تحليل الظروف والملابسات الاجتماعية التي تؤطر الوضع التربوي أو تحيط به. ومن هذا المنطلق، تهتم سوسيولوجيا التربية بعدد من القضايا ذات الطابع السوسيوتربوي، من أبرزها:

           • دراسة الأنظمة التعليمية وتحليل بنيتها ووظائفها.

           • تحليل تنظيم المدرسة وعلاقته بسوق الشغل.

           • البحث في الأصل الاجتماعي للمتعلم وأثره على تحصيله الدراسي.

           • معالجة ظاهرة الفشل الدراسي وأسبابها الاجتماعية.

     تُعد سيكوسوسيولوجيا التربية مقاربة علمية تقوم على دراسة التفاعل بين البُعدين النفسي والاجتماعي، أي ما ينشأ عن تفاعل الأفراد داخل الجماعات التربوية الصغيرة، مثل جماعة الفصل الدراسي، من تأثيرات إيجابية أو سلبية على مناخ الجماعة. هذا المناخ بدوره ينعكس على جودة التعلم ومردودية التحصيل الدراسي.

     ومن بين المحاور الأساسية التي يركّز عليها هذا التخصص نذكر: دينامية الجماعة، خاصة جماعة القسم، والتواصل التربوي.

    تُعد فلسفة التربية مقاربة شاملة للظاهرة التربوية تنطلق من منظور فلسفي خالص. فهي تسعى إلى مساءلة التربية في كليّتها، من حيث ماهيتها، طبيعتها، إمكاناتها، وغاياتها، مع ربط كل ذلك بالفلسفة العامة التي يقوم عليها المجتمع.

    ونظرًا لطبيعتها التوجيهية، تُعتبر فلسفة التربية بمثابة الإطار المرجعي الذي يُوحِّد مختلف فروع علوم التربية، ويضمن انسجامها ضمن توجه عام مشترك، يعكس الرؤية الفلسفية للمجتمع ولا يحيد عنها.