نظريات النمو

   تُعد السيكولوجيا التكوينية (ou psychologie génétique) مقاربة نظرية وتطبيقية ظهرت في منتصف القرن العشرين، وترتكز على تصور بنائي يرفض النزعتين الوراثية والتجريبية الصرف. ويُعد جان بياجي من أبرز رواد هذه المقاربة، حيث ركز على تتبع تطور التفكير عند الطفل، من خلال رصد المراحل العمرية التي يمر بها، والتي تتسم ببنية ذهنية تتطور تدريجيا نتيجة لتفاعل ثلاث عناصر رئيسية: النضج العصبي، والتجربة العملية، والمحيط الاجتماعي.

   يرى بياجي أن الذكاء ليس معطى فطريا، بل هو نتاج سيرورة تفاعلية تكوينية، ترتكز على عمليتين متكاملتين: التمثل (assimilation) والملاءمة (accommodation)، واللتين تهدفان إلى تحقيق التوازن المعرفي (équilibration)، باعتباره حالة انسجام بين البنيات الذهنية للطفل والمحيط الخارجي.

   وقد صنف بياجي مراحل تطور التفكير العقلي إلى أربع مراحل رئيسية:

     1. المرحلة الحسية الحركية (0-2 سنوات): حيث يعتمد الطفل على الإدراك الحسي والنشاط الحركي للتعرف على العالم.

     2. مرحلة ما قبل العمليات (2-7 سنوات): تبرز فيها الوظائف الرمزية، مع غلبة التمركز حول الذات وصعوبة فهم وجهات النظر الأخرى.

     3. مرحلة العمليات المادية (7-11 سنة): يبدأ الطفل في إجراء عمليات عقلية ملموسة، وفهم مفاهيم التصنيف والحفظ والسببية.

     4. مرحلة العمليات الصورية (من 12 سنة فما فوق): يتمكن الفرد من التفكير المجرد، وبناء الفرضيات، وممارسة الاستدلال المنطقي.

   يربط بياجي تطور الذكاء بالتغيرات النمائية البيولوجية، والتجارب التفاعلية، ومحيط الطفل التربوي والاجتماعي، مما يجعل الذكاء أداة للتكيف الإيجابي مع البيئة. وتتميز مرحلة المراهقة، وفق هذا التصور، بالقدرة على التفكير المجرد، والاهتمام بالمسائل الفلسفية، والميول إلى النقد والتساؤل حول القيم والمعايير.

   إن أهمية السيكولوجيا التكوينية، كما طوّرها بياجي، تكمن في كونها قدّمت أساسا علميا لفهم سيرورات التعلم والنمو العقلي، وأسهمت في تمهيد الطريق نحو السيكولوجيا المعرفية الحديثة، من خلال التأكيد على الطابع النمائي للبنيات الذهنية، وضرورة ملاءمة التعليم مع الخصائص العقلية لكل مرحلة عمرية.

 

   يرى سيغموند فرويد أن النمو النفسي للطفل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطور الجنسي، حيث يقترح نظرية المراحل النفسية-الجنسية التي يمر بها الإنسان منذ ولادته إلى غاية البلوغ، وتتمثل هذه المراحل فيما يلي:

    1. المرحلة الفمية (من الولادة إلى السنة الأولى): ترتبط بالإشباع الحسّي عبر الفم، وتُعد مرحلة أولى في تشكل الشخصية، حيث تظهر ميولات مثل التملك والاعتماد على الآخر.

    2. المرحلة الشرجية (من سنتين إلى ثلاث سنوات): يتركز الإشباع في منطقة الإخراج، وتبرز صراعات بين التسلط والنظام.

    3. المرحلة القضيبية (من ثلاث إلى أربع سنوات): تزداد أهمية الأعضاء التناسلية في إدراك الطفل لجسده، وتبدأ الأسئلة حول الفرق الجنسي.

     4. المرحلة الأوديبية (من أربع إلى خمس سنوات): تتجلى في تشكل “عقدة أوديب”، حيث يُظهر الطفل مشاعر تنافس تجاه الوالد من نفس الجنس، وحباً تجاه الوالد من الجنس الآخر.

     5. مرحلة الكمون (من خمس إلى عشر سنوات تقريباً): تتميز بانخفاض مؤقت للغرائز الجنسية وتركز على النمو المعرفي والاجتماعي.

     6. مرحلة البلوغ (من إحدى عشرة إلى أربع عشرة سنة): يعود النشاط الجنسي للظهور في سياق تناسلي، وتبدأ عملية البحث عن الشريك الجنسي خارج إطار الأسرة.

   ويعتبر فرويد أن المراهقة تُعد استمراراً لعقد الطفولة، إذ يُعاد إحياء الرغبات والمكبوتات القديمة تحت تأثير التغيرات الهرمونية والنضج الجنسي، مبرزاً بذلك مركزية الغريزة الجنسية في تكوين الشخصية.

   إلا أن هذا التصور الفرويدي، رغم إسهامه في فهم البُعد اللاواعي في السلوك البشري، تعرض لانتقادات عديدة بسبب مبالغته في تفسير كل السلوكيات والدوافع تفسيرا جنسيا محضا، في تجاهل نسبي لعوامل أخرى كالدوافع المعرفية والثقافية والاجتماعية.

   وقد أبرز فرويد أيضاً أن الطفل، مع تقدم مراحل نموه، ينتقل تدريجياً من مبدأ اللذة، حيث يكون السلوك موجها نحو الإشباع الفوري، إلى مبدأ الواقع، حيث يبدأ الطفل في إدراك متطلبات البيئة، واحترام القواعد الاجتماعية.

   وتتميز هذه المرحلة أيضاً بخصائص وجدانية وسلوكية، منها:

     • ضعف إدراك الزمن (الطفل يعيش في الحاضر).

     • خصوبة الخيال والانفعال السريع.

      • بروز الصراع الأوديبي العاطفي بين الطفل ووالديه.

     • التدرج نحو التماهي مع أحد الوالدين كآلية دفاعية لحل الصراع.

   وفي السياق نفسه، يُبرز الباحث المغربي أحمد أوزي أربع مراحل نفسية في نمو الطفل:

     1. مرحلة المهد (0 – 2 سنوات)

     2. مرحلة الطفولة المبكرة (3 – 5 سنوات): تتميز بكثافة النشاط، ونمو الوعي بالواقع، واكتساب استقلالية نسبية.

     3. الطفولة الوسطى (6 – 9 سنوات)

     4. الطفولة المتأخرة (9 – 12 سنة)

   وتُعد مرحلة الطفولة المبكرة محورية في الانتقال من التمركز حول الذات إلى بداية الانفتاح على الواقع، حيث يتطور فيها الإدراك العقلي والاجتماعي والوجداني تدريجياً.

 

   تميّزت نظرية العالم الأمريكي إريك إريكسون (Erik Erikson) بطابعها الشمولي الذي يدمج بين الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية في دراسة تطور شخصية الطفل والمراهق، حيث ركّز على العلاقة بين النمو النفسي والتكيف الاجتماعي عبر مراحل متسلسلة تمتد على طول الحياة.

   وقد عرض إريكسون تصوره في كتابه “الطفولة والمجتمع” (Childhood and Society) الصادر سنة 1950، حيث تناول فيه عدداً من القضايا النفسية والاجتماعية، مثل: الجنسية الطفولية، صور الطفولة في قبائل الهنود الحمر، نمو الذات، تطور الهوية لدى الشباب، تحليل شخصيات بارزة (هتلر، مكسيم غوركي…)، والخوف من القلق.

   تقوم نظرية إريكسون على تصور تطوري للشخصية من خلال ثماني مراحل نمائية رئيسية، يمر فيها الفرد بأزمات نفسية اجتماعية يتوجب عليه تجاوزها بنجاح لضمان توازن شخصيته. من أبرز هذه المراحل:

     1. الثقة مقابل عدم الثقة (من الميلاد حتى السنة الأولى): تتشكل الثقة الأساسية نتيجة علاقة الطفل الإيجابية بالأم، حيث يُعد الحنان والاستقرار مدخلاً أساسياً لبناء الأمان النفسي.

     2. الاستقلال مقابل الشك والخجل (من 1 إلى 3 سنوات): يبدأ الطفل في ممارسة استقلاليته الجسدية واتخاذ بعض القرارات البسيطة. الفشل في هذه المرحلة يؤدي إلى الإحساس بالشك في القدرات الذاتية.

     3. المبادأة مقابل الشعور بالذنب (من 3 إلى 6 سنوات): تنمو رغبة الطفل في المبادرة والتجريب وطرح الأسئلة. فإذا لم يُشجع على ذلك، قد يتولد لديه شعور بالذنب واللوم الذاتي.

     4. الاجتهاد مقابل الشعور بالنقص (من 6 إلى 12 سنة): يدخل الطفل في علاقة مع المدرسة والمجتمع الأوسع، ويطور إحساسًا بالكفاءة والقدرة على الإنجاز. الفشل هنا يولد الإحساس بالعجز والدونية.

     5. تكوين الهوية مقابل تمييع الهوية (مرحلة المراهقة): يبحث المراهق عن إجابة لسؤال “من أكون؟”، وتتبلور هويته الذاتية والاجتماعية. وقد يعيش ارتباكاً في الهوية إذا لم يجد دعماً مناسباً في هذه المرحلة الحساسة.

     6. الحميمية مقابل العزلة (بداية سن الرشد): يسعى الفرد إلى إقامة علاقات عاطفية واجتماعية عميقة ومستقرة، وفي حال الفشل، قد يعيش حالة من العزلة والانطواء.

      7. الإنتاجية مقابل الركود (منتصف الرشد): يتم التركيز على الإنجاز، والتفاني في العمل والأسرة، والعطاء للجيل التالي. غياب هذا الشعور يؤدي إلى الإحساس بالفراغ والركود.

      8. تكامل الأنا مقابل اليأس (مرحلة الشيخوخة): يعيد الفرد تقييم مسار حياته. فإن تقبّل مسيرته ووجد فيها معنى، يشعر بالرضا؛ أما إذا غلبه الندم والإحساس بالفشل، يدخل في حالة من اليأس الوجودي.

 

   تُعد نظرية لورانس كولبرج (Lawrence Kohlberg) امتدادًا مباشراً للنظرية المعرفية عند جان بياجيه، إذ اعتبر كولبرج أن نمو التفكير الأخلاقي يرتبط بالنمو المعرفي، ويتطور عبر مراحل متعاقبة وثابتة. وقد استند في بناء نظريته إلى أفكار سابقة لكل من بالدوين (1906) وجورج هربرت ميد (1934)، لكنه طور هذه المفاهيم في اتجاه أكثر تفصيلاً وتنظيماً.

   حدد كولبرج ست مراحل للنمو الأخلاقي، موزعة على ثلاثة مستويات رئيسية، وهي:

     1. المستوى ما قبل التقليدي (Pre-conventional)

   يرتبط هذا المستوى بمرحلة الطفولة المبكرة، حيث يتم تقييم الأفعال من خلال نتائجها المباشرة، كالعقاب أو المكافأة.

     • المرحلة الأولى: التوجه نحو العقاب والطاعة – يُنظر إلى الفعل الجيد باعتباره الفعل الذي يتجنب العقوبة.

     • المرحلة الثانية: التوجه الوسيلي – تُفهم الأخلاق في ضوء المصلحة الشخصية وتبادل المنافع (افدني أفدك).

     2. المستوى التقليدي (Conventional)

   في هذه المرحلة، يبدأ الفرد بتبني القواعد المجتمعية ويسعى للقبول الاجتماعي والاحترام.

     • المرحلة الثالثة: “الولد الطيب/البنت اللطيفة” – يهدف السلوك إلى نيل رضا الآخرين والامتثال لتوقعاتهم.

     • المرحلة الرابعة: التوجه إلى القانون والنظام – يظهر التقدير للسلطة والالتزام بالقوانين من أجل استقرار النظام الاجتماعي.

     3. المستوى ما بعد التقليدي (Post-conventional)

   يمثل هذا المستوى أعلى درجات النضج الأخلاقي، حيث تُبنى الأحكام على المبادئ الأخلاقية الذاتية.

    • المرحلة الخامسة: العقد الاجتماعي – تُراعى الحقوق الفردية والقيم الديموقراطية، مع إدراك نسبي للقوانين وإمكانية مراجعتها.

    • المرحلة السادسة: المبادئ الأخلاقية العامة – يستند السلوك إلى مبادئ عالمية كالعدل والمساواة وكرامة الإنسان، حتى إن تعارضت مع القوانين.

  مقارنة بين كولبرج وبياجيه

     نقاط الائتلاف:

       • كلاهما يرى أن النمو الأخلاقي يتبع مراحل متسلسلة وثابتة.

       • يعتبران أن العدالة هي جوهر التفكير الأخلاقي.

       • يؤمنان بأن التفاعل مع الأقران ضروري لتطور الحكم الأخلاقي.

       • يعتمدان على المقابلات القصصية الافتراضية لتقييم التفكير الأخلاقي.

      نقاط الاختلاف:

       • ركز بياجيه على مرحلتين (الواقعية الأخلاقية والتبادلية)، بينما حدد كولبرج ست مراحل.

  .    • يرى بياجيه أن النمو الأخلاقي يبلغ ذروته في سن 18، في حين يرفعه كولبرج إلى 25 سنة.

   .   • التفاعل عند بياجيه يُنمّي التعاطف، أما عند كولبرج فهو يحد من التمركز حول الذات.

   نموذج كولبرج التطبيقي

   اشتهرت نظرية كولبرج باستخدامها لسيناريوهات أخلاقية، أبرزها قصة “هاينز”، الذي يسرق دواءً باهظ الثمن لإنقاذ زوجته من الموت. لا يكمن التركيز في تقييم الإجابة بقدر ما يُعنى بمستوى التفكير الذي يقود إلى الحكم الأخلاقي.