مدارس الحركة الوطنية:
إلى جانب البنيات التي شكلت النظام التعليمي الشرعي، والذي عُرف لاحقًا بـ”التعليم التقليدي” أو “العتيق”، عملت سلطات الحماية الفرنسية على إرساء أسس نظام تعليمي جديد، مستخدمة في ذلك كل الوسائل المتاحة، ومدعمة إياه بالإمكانات الإدارية والمادية والبيداغوجية اللازمة.
وفي المقابل، سعت هذه السلطات إلى تقييد التعليم الأصلي، والنيل من سمعته، عبر تحقير مخرجاته، وحرمان خريجيه من الولوج إلى الوظائف والإدارات العمومية، باستثناء بعض القطاعات المحدودة، وضمن شروط غير متكافئة، خاصة من حيث الأجور، مقارنة بخريجي المدارس “الحديثة” التي أنشأتها سلطات الحماية.
وفي هذا الإطار، أخضع الجنرال ليوطي ومساعدوه المشروع التعليمي المزمع تطبيقه في المغرب إلى الكثير من التدقيق والتعديل.
وقد شملت المرحلة التجريبية الممتدة بين 1912 و1916، إحداث مدارس فرنسية-عربية، ضمت قسمًا خاصًا بحفظ القرآن الكريم ودراسة اللغة العربية، إلى جانب قسم آخر لتعليم اللغة الفرنسية. وكانت هذه المؤسسات التعليمية، في تلك الفترة، إما مملوكة للمخزن، أو مُكتراة، أو مهداة من قبل الأهالي.
ومع حلول سنة 1920، بدأ يتبلور المشروع التعليمي الذي قاده المقيم العام المارشال ليوطي، حيث شرعت مديرية التعليم العمومي، التي أُنشئت حديثًا، في اعتماد سياسة تعليمية واضحة المعالم، تقوم على التمييز بين ثلاثة أنماط تعليمية داخل المغرب:
التعليم الأوروبي
خُصّص هذا النوع من التعليم بشكل أساسي لأبناء المستعمِرين الفرنسيين، وكانت مهمته الرئيسة هي خدمة المشروع الاستيطاني الاستعماري الفرنسي في المغرب.
وقد جاء هذا النظام كصورة مطابقة تمامًا للنموذج التعليمي الفرنسي، سواء من حيث تنظيم الأسلاك والمراحل التعليمية (الابتدائي، الإعدادي، الثانوي)، أو من حيث المناهج والبرامج الدراسية، وحتى الشواهد التي تُسلّم في نهاية كل سلك تعليمي.
التعليم الإسرائيلي
أما هذا النمط من التعليم، فقد كان موجهًا خصيصًا لأبناء الطائفة اليهودية المغربية، وكان تابعًا لشبكة مدارس الرابطة الإسرائيلية العالمية، التي افتتحت أول مدرسة لها بمدينة تطوان سنة 1872.
وكان التعليم في هذه المدارس يُلقّن باللغة الفرنسية، مع تخصيص خمس ساعات أسبوعيًا لتدريس اللغة العبرية فقط.
وقد بلغت نسبة تمدرس الأطفال اليهود المغاربة في سن التمدرس، سنة 1952، حوالي 67%، وهو معدل مرتفع مقارنة بالسياق العام آنذاك.
التعليم الإسلامي
وقد انقسم هذا النوع من التعليم إلى قسمين بارزين:
• مدارس أبناء الأعيان: وهي مؤسسات يمكن اعتبارها بمثابة مدارس النخبة المغربية، إذ أُنشئت خصيصًا لتكوين فئة من أبناء الوجهاء، والأعيان، وكبار الموظفين، والتجار، والملاّكين، ليلعبوا دور الوسيط بين الإدارة الاستعمارية وباقي فئات الشعب المغربي، خاصة الفئات الدنيا.
ومن أبرز الشخصيات التي أشرفت على هذا النوع من التعليم نذكر توم هاردي، الذي تولّى منصب مدير التعليم بالمغرب.
• المدارس الابتدائية المهنية: أُنشئت في بعض المناطق الحضرية والقروية، وكانت مهمتها الأساسية تكوين يد عاملة مدرّبة لخدمة مصالح المستعمر الفرنسي.
ففي المناطق القروية، تم إنشاء مدارس فلاحية تهدف إلى تزويد المستعمرين بيد عاملة متعلمة في المجال الزراعي،
أما في المناطق الحضرية الصناعية والتجارية، فقد ظهرت مدارس مهنية تُكوّن العمال في مجالات البناء، والتجارة، والصيد، والملاحة، لتلبية حاجات المعامل والمرافق الاقتصادية الفرنسية.
مدارس الحركة الوطنية:
إدراكًا من روّاد الحركة الوطنية لخطورة النموذج التعليمي الكولونيالي، الذي رأوا فيه أداة لـ”الغزو الفكري” وتهديدًا للهوية الثقافية الإسلامية المغربية، عملت هذه الحركة على تأسيس مدارس خاصة وطنية، تجاوزت الأساليب البيداغوجية التقليدية المعتمدة في الكتاتيب والمدارس العتيقة.
وقد ميّز هذه المدارس إدراج مواد تعليمية جديدة لم تكن مألوفة في المؤسسات التقليدية، كـالتاريخ، الجغرافيا، المنطق، والنحو، إضافة إلى العلوم الدينية، مع اعتماد اللغة العربية كلغة وحيدة للتدريس.
عرف هذا النموذج من التعليم انتشارًا واسعًا خلال العقد الثالث من القرن العشرين، خصوصًا في المدن التي نشطت فيها الحركة الوطنية، مثل الدار البيضاء، فاس، تطوان، الرباط، وسلا.
وانطلاقًا من التعليم الذي كان يُمارس في المساجد والزوايا، أسس الوطنيون ما سُمي بـ”التعليم الأصيل”، وهو تعليم لم يكن يتوّج بشهادات رسمية معترف بها من طرف إدارة الحماية، وإن كان الشيوخ يمنحون لطلبتهم إجازات علمية تثبت تمكنهم في فروع معرفية معينة.
ركز التعليم الأصيل على العلوم الشرعية، وكان برنامج السنتين الأولى والثانية يتضمن مواد:
الفقه، أصول الفقه، النحو، الصرف، فن النسخ، الخط، الحساب، الجغرافيا، والتاريخ.
وفي السنة الثالثة، أُضيف علم التجويد، أما في السنة الأولى من التعليم الثانوي (السنة الرابعة)، فقد تم تدريس الهندسة،
وفي السنة الثانية من الثانوي، تم إدراج العروض والمنطق،
وفي السنة الثالثة: الكتابة العدلية،
وفي السنة الرابعة: نفس المواد السابقة مع إضافة علم الحديث والبلاغة.
وقد كان إصلاح التعليم من المحاور الأساسية التي شغلت أقطاب الحركة الوطنية، إذ خصّصت “كتلة العمل الوطني” سنة 1934 الفصل الخامس من برنامجها كاملاً لقضية إصلاح المنظومة التعليمية.